]احاول ترجمة مشاعري ، قراءة نفسي ، سماع صوتي المختفي ألماً وحنجرتي المحترقة بنار العجز، مدينة درعا تحترق يتلظى شبابها بنار الرصاص الحي المُشرع والموجه لصدور ورؤوس شبابها..كل اللغات تقف مصابة بالسكتة..تهرب مفاتيحها من يدي ، توقف حرائقي إمكانية التعبير وقدرة العقل على رسم حروف تصل لمستوى الحدث، تعطيه قدره من التصوير، يعجز المخيال أمام هول الحصار وتأرجح الموازين.. يفجرني لغماً ألمياً فأنتثر شظايا لاتسعف المراثي، ولا تسد ثقوب الصديد في تآكل جدران القلب ومشاركتها مآتم الضحايا ..تتفحم الشرايين حين تأتيني أخبار اقتحامهم لبوابات وجسور مدينة..درعا الحبيبة..يابنة التراب البركاني الأحمر يابنة الصخور السوداء الصلبة ياحفيدة غسان ..تحفظين فصول التاريخ وتعرفين أبواب النضال..سجلتي عبر الزمن بطولات ومواقف..جعلتني أعتز بالانتماء إليكِ...لكني اليوم أرفع رأسي عالياً...أطاول السماء..ألمس الغيوم ، أصافح النجوم...تتألقين رغم الدماء، وتسطرينه بدماء شبابك ..تكتبين بالدم اسم الثورة السورية..لتكوني بجدارة " سيدي بوزيد السورية".
يغني واديك" الزيدي" وزيتونك أنشودة الحرية وتهتف الحناجر الشابة( سلمية، سلمية، حرية ، حرية، بعد اليوم مافي خوف وبعد اليوم مافي نوم، خائن خائن من يقتل شعبه، حاميها حراميها، الله سورية وبس)...هتافات شبابك تعيد تكوين الطين تعيد تكوين الخريطة، بعد أن شوهتها عصابات اخترقت التاريخ وعبثت بلغته وخُطاه...تعودين اليوم يا أذرعات...إلى "غسان" تتحولين لصرخة تربط الريح بالحجر وتربط الشراع بالميناء..تربط الهضبة بالجبل وتكتب أسماء شهداءك على ألواح بصرى وقلعتها...فوق أعمدة المسجد العمري الأثرية...حيث سفحت دماءهم تطهر ترابك من ربق طال عمره، لم تتعودي على الركوع إلا لله ولسجادة التراب الوطني...هاتحملين راية الحرية وتسطرين أروع الأسماء فوق شهب سوريا ونجومها..فتلمع صور" محمود الجوابرة، وحسام عياش، ورائد الأكراد..وأيهم الحريري.. واحمد ابونبوت .الخ" وربما تطول القائمة فالتعتيم سيد الطاغوت ورعبه من الافصاح يحول بينه وبين الحقيقة...لأنها مقتله..ونقطة النهاية لبداية اعتقد مشرعها أنها خالدة ومحنطة تصونها جدران العزل التي نصبها عدو الوطن بين أبنائه، فأثبتِ يادرعا...أن ملحك لايخون ولا يعترف بالتفرقة، يكسر الحواجز ويعلن حربه على خوف أسطوري بُني بدقة خلال عقود أربع..وهاهو يسقط بضربة واحدة سددتها أحجار شبابك البررة.
نِعم الرجال أنتم ( ياصبيان جابر)*..نعم الرجال أنتم ياأهلي...بصدوركم العارية واجهتم أسلحةالعصابات .!...لكن المعادلة قلبها أهل حوران...قلبها سهل وهضبة حوران المخيَّط بالقصب والمزنر بالقمح الذهب..
الثورة السورية الميمونة فوق أرضك يا( أذرعاتي)**... هؤلاء هديتك للثورة..هديتك لحرية سورية...لم تنفعهم سلميتهم ولا شعاراتهم المقتصرة على مطاليب إصلاحية...في بدايتها.الشهداء...كيف يمكن لهذه التركيبة العقلية الأمنية أن تحتمل لاءاتك يادرعا؟...اعتقلوا منذمنتصف الشهر الماضي مجموعة من الأطفال لايتجاوز عمر أكبرهم الثانية عشرة حولاً...اتخذوا من ثوار تونس ومصر مثالاً للحرية والرفض لما يعيشه أهلهم وظرفهم اليومي ومعاناتهم..فراحوا يخربشون على جدران مدارسهم وشوارعهم " الشعب يريد إسقاط النظام" ــ ربما جُلهم لايفقه بُعد المعنى لما يكتب، ولا يفقه أبعاد ونتائج مايترتب على خربشاته..اعتقد أن نظام بلده سيحتمل رفضه، وله الحق كما للمصريين والتوانسة الحق في حياة أفضل ، في كرامة مصانة، في لقمة نظيفة، في عمل، في وطن ينصفه ويمنحه فرصة لحياة أفضل لايضطر إزاءها ليرى والده أو شقيقه يغادر إلى بلاد البترول أو يهاجر إلى دنيا الله الواسعة بحثاً عن فرصة تليق بما درس وتعب واجتهد ويستحق عليها مكانة تتناسب وجهوده وكفاءاته...يريد أن يرى كل أسرته حوله...لكنه لم يتوقع أن يعرف درب السجن قبل أن يتعرف على درب الثانوية أو الجامعة...اعتقلت أجهزة الأمن السياسي " 15 طفلاً " أطلقت عشرة منهم واحتفظت بخمسة ثم اقتادت معهم أولياء أمرهم.
حاول الأهالي مراجعة المسؤولين في المحافظة والأمن ، لكن هذه الدوائر تربت وتدربت على احتقار الشعب وإذلاله..لا لعيب في شخصيات المسؤولين فقط ، لكن العيب في التعليمات المعطاة لهم، العيب في الطريقة التي أملوها عليهم ودربوهم على استخدامها لتجييش وإخضاع الناس واستغفالهم..والنظر إليهم باستعلاء..عاد الأهالي بخفي حنين..هذه كانت القطرة التي جعلت المحيط يفيض فيحدث تسونامي " درعاوي" ــ إن جاز التعبير، فقلوب الناس محملة بأطنان من القمع والحقد وذل عمره مايزيد على أربعة عقود وقوانين مجحفة صارمة سواء بحقهم كمواطنين سوريين أو كأبناء محافظة حدودية تخضعهم لتقديم الكثير من الرشاوي عند أي معاملة بيع أو شراء أو تملك بناء على المرسوم التعسفي حامل الرقم " 49" ..أما على مستوى الحريات العامة فحدث ولا حرج..
جاءت الفرصة ، التي خرجت عن قيود الخوف وكسرت حصاره المزمن ليتدفق من جديد دم الثورة السورية المتوارث عبر التاريخ
وخرجت جموع الشباب سيلاً عارماً أسقط الخوف من حسابه...وبنفس الوقت بدأ النظام المرعوب من نتائج مافعلت يده يحاول لملمة الموضوع عله يفلح تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، زرع العوازل والمجنزرات..أحضر رجالا لم يتعرف عليهم سكان المكان..أزياء لم يعهدها وعتاد لم يسبق أن رآه إلا بالأفلام!..كل هذا من أجل قمع شباب في مقتبل العمر..يريدون الإحساس بإنسانيتهم ،يريدون أن تظل أقدامهم ثابتة فوق التراب مغروسة بطين الأرض، اتهمتهم صور المسؤولين عبر الفضائيات والصحافة الموتورة والمأجورة...تارة " بالمدسوسين، وتارة بفتح الإسلام، وأخرى بقبض أموال من إسرائيل"!!! ما أسهل كيل التهم ..ما أيسر التخوين لمن يرفض الطاعة والولاء..سبقتهم إلى السجون نساء من خيرة نساء سوريا علماً وثقافة ووطنية..لم تعهد سوريا أن ترى هذا الكم من نسائها خلف القضبان ولا من رجالها وأطفالها..
يمزقني صراخي المكتوم وترتعش فرائصي أمام حجم المجزرة وبطش القتلة حين يقتنصون صيدهم من الطائرات الحوامة فيردون محمود جوابرة" الشاب ابن العشرين في رقبته..وترسم صورة الفيديو بشاعة القتل ..طوبى لك ياشهيد ..طوبى لروحك الطاهرة .
..أكتب وأتوقف..أرتجف غيضاً ألماً..وجعاً..أرسم بمخيلتي صدمة أمه...صدمة أبيه وأخوته...ويح الإجرام. ؟لم يتوقف الدم ولم تخمد نار الغيض، حتى يأتيني خبرا أشد هولاً...يسقط أحد الأطفال متأثراً بجراحه واختناقه من القنابل المسيلة للدموع، والغريبة على شعبنا من حيث حدة تأثيرها ونوعيته، لأنها تصيب بالإغماء كل من يقف في محيط تأثيرها...الطفل"مؤمن منذر المسالمة"ابن الحادية عشر ربيعاً ..يسقط دون أي امكانية لعودة الحياة إلى قلبه الصغير...وعلى كل من يعبر الجسور المتصلة بين منطقتي المحطة ــ البلد أن يبرز هويته للحواجز، ..ويُمنع على الناس التجمع لأكثر من أربعة أشخاص، يمنع ركوب الموتوسيكلات، يمنع مرور أي سيارة تحمل أكثر من شخص، يمنع دخول أي مواطن من القرى المحيطة بدرعا من دخولها..توقفت حركة الاتصال بدرعا..انقطعت الهواتف المحمولة...قطعت الكهرباء أكثر من مرة، والآن قطعت الهواتف الأرضية والنت بشكل كلي ...ألا تعرفون لماذا؟...لأن أهل درعا" مندسون"..يامرحباً بالنشامى المندسين يقررون مصير وطنهم ويشعلون بدمائهم شرارة البوعزيزي الدرعاوي...
هنا أوجه ندائي ، وأتمنى أن يصل ولو لبعض من جنود هذه الفرقة..أو لأبناء درعا..استقبلوهم بالزهور.هم أبناءكم..هم أخوتكم..قولوا لهم أن موقعهم هناك لاستعادة الجولان، وقد أخطأوا الدرب...هذه درعا ستستقبلهم كضيوف عليها وكأخوة... ويأملون أن ينضموا لهم وكما قالها شباب درعا" خائن خائن من يقتل شعبه "..تتسع رقعة الثورة ودائرة الرفض ..يثور سكان القرى المحيطة بدرعا والتابعة لها إدارياً وأهلياً ..باعتبارها امتداد لحوران ككل..يثور أهل " داعل، انخل، الصنمين ، جاسم...الخ" يحاولون القدوم لدرعا فيُمنعوا بشدة ..تزداد الاعتقالات ويكبر هول الحصار.. ..ينتفض أهل دمشق في بعض ساحاتها وفي ضواحيها " مضايا تحديداً"..تقوم أجهزة الأمن باعتقالات في كل المحافظات من القامشلي إلى حلب فمعرة النعمان..فدمشق..وأشدها في درعا..
*صبيان جابر " لقب يطلق على سكان حوران".
** أذرعات" اسم درعا الروماني القديم
منقول بتصرف